يوسف عز الدين رؤوف : خرافات نظارة جدّي .
سرديات
ترجمة مكرم رشيد الطالباني
لم أكن أرغب في تذكر شيء من ذلك الحلم .. الذي لم أكن واثقاً متى وكيف كنتُ قد رأيته ؟! ولكن الشيء الذي كان واضحاً لديّ ، هو تحطم نظارة جدّي في منتصف الحلم .. وما كنت لأدرك لم كان يجب أن تتحطم نظارته في منتصف الحلم ! أو لماذا كنت اتذكر هذا المشهد بعينه دون غيره وتختفي لديّ بداية ونهاية الحلم .
أخبرني جدّي قبل رحيله : ,, يا بني الشيء الوحيد الذي سأرثك إياه ويجب عليك أن تعدني بالمحافظة عليه هو هذه النظارة … أحذر حين ترتديها يجب الاّ ترفعها إلاّ عندما تخلد للنوم … إن تاريخ هذه النظارة قديمٌ ، لقد حصلت عليها بنفسي من احد الرحالة ، الذي قبل أن يغادر هذه البلاد ويعود عن طريق البحر إلى بلاده ؛ دعاني في مساء ماطر ، واخبرني بكل بساطة : أرغب في أن أترك لديك تذكاراً ، الذي يجب عليك عدم الإفراط به والمحافظة عليه بمرور الأيام .
وبعد ان انهى حديثه ، سال من فم جدّي زبد بيضاء اللون ليغمر البطانيات والألبدة وأفرشة الغرفة بأسرها من هذا الزبد الأبيض .. والذي كان يتزايد دون إنقطاع وقبل أن يصل إلى مستوى يده اليمنى التي كان يمسك بها نظارته ، أخرجها بحذر شديد .. وكأنه غير راضٍ من ان يمنحني ميراثه الوحيد في آخر لحظة .. يبدو أنه تراجع عن وعده .. والغريب في الأمر هو انه ما كان ليرغب في التخلي عن تلك النظارة حتى وهو ميتٌ، والتي كانت دون شك تخفي وراءها سرّاً أو طلسماً ما !؟
وبمساعدة من رجال الحي الأغيار، واريت جدي الثرى حسب وصيته في منطقة منعزلة وعرة .. وبعد إنقضاء عدة اسابيع أخرجتُ النظارة من الصندوق الخشبي المزدان بالياقوت والأصداف والخرز والؤلؤ بأنواعها .. حدقت النظر إليها فوجدتها وقد تغير لونها .. وكان يبدو بأن هذا هو أحد اسرار تلك النظارة ؛ وكانت صورة جدي لا تزال تشاهد في عدستيها .. فأمعنت فيها النظر بدقة ، كانت عينا جدي السوداوين ينظران إليّ خلف العدستين … فوضعتها في مكانها على عجل ووضعت الصندوق في النافذة التي تم وضع الكتاب المقدس فوقها .. والذي كان جدي يقول عنه دوماً :
يا بنيّ إن الرب يروي تاريخنا في هذا الكتاب … سيأتي زمانٌ ، يتطلب منك العودة إليه ؛ ولكن يجب عليك ألاّ تسمح لأي كائن كان بتصفحه .
ومن ثم فإن كل هؤلاء الذين كانوا على معرفة بجديّ عن قرب ، رووا لي حكاية تلك النظارة بأساليب مختلفة، وكان معظمهم يعتقد ، بانه في تلك الفترة التي كان جدّي يدرس فيها في الكلية الحربية باسطنبول ، أهداها إليه رجل يهودي ، كان صديقاً لجدي في تلك الفترة وكان يحبه حباً جماً .. والشخص الوحيد الذي كان له رأي مخالف كانت عجوزاً ساحرة ، التي كانت تزور جدي بإستمرار وكان بينهما الكثير من الااسرار والخفايا … حيث أخبرتني :
يا بني إن هذا في غير حاجة لأي تردد ، إن هذه النظارة هي نظارة ( الميجر سون ) .. والتي لا أعرف متى وكيف تمت سرقتها ووصلت إلى أيدي جدك … أو فليسامحني الرب ، كما يقولون بأن جدك سلبها من السارق قسراً ، وهناك إحتمال بأنه كان قد اشتراها منه … واعرف كذلك بأن للنظارة خفايا وأسرارها الخاصة بها ، والتي لايمكن لي أن أخبرك عنها شيئاً .
لهذا فأياًّ كان تاريخ وحكاية النظارة .. فقد أصبح بالنسبة لي دافعاً للسأم والقلق ، لأنه كان عليّ أن احافظ عليها بإستمرار وأن ارتديها بإستمرار حسب ما أوصاني به جديّ ، غير إنني لم اكن لأجرؤ على إرتدائها حتى ذلك الوقت !
ولأجل الاّ أحيد عن وصيته .. راجعت الطبيب وقمت بفحص النظر .. والذي لم اكن حتى ذلك الوقت لأرى أي نقص في نظري ولم اكن لأعرف كيف أجعل الطبيب يوافق على تشخيص عدسة ذات درجة دنيا لأجل إرتداء نظارة جدّي ؛ ولكن بعد أن فحص نظري وقام بمعاينته بدقة … وبعد ان قام بفحص عدسة النظارة .. أخبرني دون تردد : تنسجم هذه العدسات مع نظرك وان درجة نظرك لم تتغير،، فأخبرته بقلق متزايد : دكتور هذه النظارة تعود لجدي وهي تصلح لنظره هو فقط ،، . فأجابني : أخي إنني لن امزح معك .. إن عدستها تنسجم تماماً مع درجة نظرك .. ولن تحتاج إلى أي تغيير ،، . في ذلك المساء الذي كنت قد تركت العيادة فيه ، كانت الأجواء مغبرة .. بحيث كانت الأسواق والمحلات التجارية قد أغلقت .. وكنت ترى بين حين وآخر أحد المارة وهو يمر مسرعاً .. يحتمل أن تاريخ هذه المدينة لم يشهد هطول غبار كهذا .. والأغرب من ذلك هو إزدياد أعداد الکلاب في المدينة . فكان يشاهد أزواجاً أو ثلاثاً ثلاثاً منها عند مخابيء البيوت والدكاكين والدور الخربة .. إضافة إلى كونها كانت تطارد بعضها البعض بين حين وآخر لبعض الوقت في شوارع المدينة .. ومن ثم تجالس كلباً أغبر مع كلبة بيضاء .. وسط أحدى الساحات ! أنتظرت كثيراً فلم يكن الكلب ليتخلى عن الكلبة ويتركها .. فرميتهما بكسرة حجر وهتفت إستهزاءاً منهما ، وحدث أن تقابل مؤخرة الكلب مع مؤخرة الكلبة دون أن يستطيعا الإنفصال عن بعضهما .. وكان منظرهما غريباً جداً ، لم اره من قبل .. لم أكن لأعرف بان تجانس الكلاب هو بهذا الشكل !؟
ومن ثم أسترق قلبي فتركتهما .. وكنت قلقاً حول إرتداء النظارة ، لأنني لم ادرك كنه خفاياها وأسرارها ولم أكن لأعرف ماذا سيحدث؛ إضافة إلى أنني كنت أتوجس خيفة عقب إرتداءها بأن ترتطم بالأرض في زحام ما وتنشطر من وسطها إلى نصفين وتتهشم , خاصة وأنني كنت مولعاً بحضور المهرجانات والمناسبات والإحتفالات والمراسيم .. لدافع لم اكن لأستطيع تحديده بدقة أو أدرك كنهه ؟
من المحتمل أن يكون سبب ذلك هو أنه في إحدى المناسبات تلك جلست بجنبي فتاة سمراء سوداء العينين وكانت تلتصق بي أكثر رويداً رويداً ومن ثم قالت لي أخيراً : منذ مدة طويلة وأنا أراقبك وقد احببتك منذ زمن بعيد ،، حين دققت النظر فيها تذكرت مشاهد لوحات ( غوغان ) .. كنت أشعر بإمتلاء جسدها ودفء حضنها .. كانت تتحدث قليلاً، ولكن حينما كانت تفتح ثغرها، كان هناك إعوجاج طفيف في أسنانها .. الذي أصبح سبباً من اسباب جمالها الأخاذ كنت أحب فيها أكثر مصمصة شفتيها وكان هذا يثير فيّ رغبة جنسية غريبة جداً .. كنت اتخيل بأنني أحد الرحالة والمكتشفين القدماء وقد أكتشفت جزيرة مسحورة ، مليئة عن آخرها باشجار الموز وأنا والفتاة هذه، التي كنت اناديها لوحدي ودون أن اسألها عن اسمها، بـ ( تلار) .. كنا متمددين سوية في أرجوحة شبكية معلقة بين شجرتين ، تحت افياء الأشجار .. وكانت حين تريد التعبير عن شيء دون أن تستطيع ذلك ، كانت ببغاوات تلك الجزيرة تعبر بكلمات متقطعة عن رغبات وميول ( تلار ) وكنت أنتظر دوماً، أن تمتلأ عيناها دموعاً وتجهش بالبكاء .. دونما أدنى سبب يحتمل أن يكون ذلك البكاء من مخلفات ذلك الوقت الذي سقطت فيه من ظهر حصان ابيض والذي أحدث في ساقها اليمنى جرحاً غائراً .. ولكن حين كنت تمعن النظر فيه كان أقرب منه إلى آثار الحرق !
رأيت تلك الفتاة في مناسبتين ومراسيمين ليس إلاّ، والتي كنت أطلق عليها لوحدي إسم ( تلار ) .. ومن ثم لم أجد لها اثراً .. ولهذا كنت احضر جميع إحتفالات ومناسبات ومراسيم وكذلك جميع أمور مدينتي المختلفة ، ولهذا كنت قد تعرفت عن بعد على جميع أولئك الشخصيات الذين كانوا يقومون في المناسبات والإحتفالات والمراسيم المختلفة بإستمرار وكانوا يقدمون الكلمات والأحاديث والنكات المتنوعة .. وكانت قد اعجبتني شخصية الرجل المهرج والذي كان يحضر دوماً بملابس وأساليب متنوعة .. وكان يقوم في بداية المناسبات والمراسيم ليقرأ كلمة طويلة ومن ثم كان يقهقه ضاحكاً حتى يتحول وجهه إلى صفين من الأسنان البيضاء الكبيرة .. التي كانت تدخل الرعب في نفوس الحاضرين ومن ثم كان لابد لنا التصفيق له وكل من كان ينسى التصفيق في تلك اللحظة .. أو كان يصفق على مهل .. فبعد إنتهاء المناسبة أو المراسيم .. كان يحضر رجال ملثمين ليلاً ليأخذوه من داره .. ولم يكن ليجد أحدُ لبعض هؤلاء بعد ذلك من أثر والذين كانوا يعودون كانوا يحجمون عن قول شيء ويخفون أسرار فقدان هؤلاء ومن ثم كانوا يجلسون في الصفوف الأولى دوماً في المناسبات والمراسيم والإحتفالات وهم يصفقون بلا إنقطاع وكان البعض منهم يهتفون وكان المسنون منهم يتعلمون الرقص !؟
كان قد مضى عام على وفاة جدي، ولم اكن قد ارتديت النظارة بعدُ .. لم اكن لأرغب في وضع نفسي تحت رحمة وأسرار وخفايا شيء مجهول مخبوء في النظارة، كنت أرغب بإستمرار الهروب من الأوهام والخرافات التي كان جدي قد قام بسردها لي وللناس الآخرين، الذين كانوا يقومون بسردها لي بأساليب مختلفة .. ولكن لم يمض طويل وقت حتى قامت العجوز الساحرة بتغيير برنامج حياتي وجعلت مني ومن النظارة توأم بعضنا البعض .. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي جاءتني وهي ترتدي ثوباً وردياً وقد حنت يديها وقدميها ، وكانت نهداها المغضنان عاريتين حتى نصفيهما وقد صبغت شفتيها باللون الوردي .. وكانت أسنانها قد أسودت بعض الشيء .. وكانت قد صبغت موضع شامة على خدها بالاسود وكحلت عينيها الزرقاوين ، أزاحت بوشاحها الأبيض وبدأت تسرد لي بهدوء حلماً ما ، كانت تدعي بأنه كان يتكرر لثلاثة ليالٍ متتالية ، وكان الحلم غريباً ومتنوعاً ولا رابط بين احداثها، وكان يتعدى أكثر من ان يكون مجرد حلم واحد .. وكان يلتقي في نقطة واحدة .. وكان ذلك حضور جدي ، الذي كان موجوداً في جميع فصول ومقاطع الحلم .
في إحدى فصول حلم العجوز : يقترن جدي بالعجوز ليأخذها على صهوة فرس بيضاء إلى مملكة اخرى ، ومن ثم يقتل جدي على ايدي بعض من رجال العصابات وقطاع الطرق وتختطف العجوز) وفي موقع آخر من حلم العجوز : لجدي ثماني عشرة زوجة ولكل منها لونها وشكلها وملامحها الخاصة بها .. وحتى لغاتهن وجنسياتهن مختلفات حيث يبقى له من ذريتهن جميعاً إبنٌ وحيد وهو أنا ، وحسب قول العجوز، سأصبح أنا بدوري حاكم هذه المدينة ، وفي مرحلة تالية تلي مرحلتي يتم وضع صورتي في موقع ستراتيجي من المدينة وسيطلق إسمي على جيل من ابناء المدينة . أما اهم جزء من حلم العجوز فهو : في يوم ماطر، وبعد أن أقوم بتنفيذ وصية جدي وأقوم بإرتداء نظارته .. تتزوجني تلك الفتاة السمراء والتي كنت اطلق عليها إسم ( تلار) التي كنت قد تعرفت عليها من قبل في المناسبات والإحتفالات ، ومن ثم عن طريق الصدفة وبعد عدة سنين أنتسب إلى صفوف شبكة سرية بواسطة أحد اقاربها .. فأشتهر سريعاً وبحكم خفايا وأسرار نظارتي أغدو شخصية مشهورة ومن ثم اصبح حاكماً لهذه المدينة , لقد سئمت كثيراً من كل تلك الحكايات والقصص التي كانت العجوز ترويها وكأنها حلم .. إضافة إلى الروائح التي كانت العجوز قد جلبتها إلى الغرفة معها وكانت تزداد بمرور الوقت .. فقد أغمي عليّ لبعض الوقت .. وحين أستعدتُ وعي كانت العجوز قد غادرت الغرفة .. لكن الشيء الذي أثار إنتباهي هو أن منامتي كانت قد نزعت .. وكنت أتمدد عاري العورة … وعلى أي حال أمضيت تلك الليلة، وعندما هلّ الصباح ، رأيت مجموعة من الأوراق ملفوفة كالتعاويذ .. وقد كتب فيها : نفِّذ وصية جدك وقم بإرتداء النظارة .. ولكن احذر ألا تنظر إلى أي شيء دون نظارته .
وبعد ذلك فقدت صبري وطول أناتي .. حتى إنني لم اكن استطيع مواصلة مهنتي كمدرس، إلى درجة كنت لا أميز بين الدروس وكثيراً ما كنت والطلاب نخلد إلى النوم في الصف ومن ثم كنا نروي أحلامنا لبعضنا البعض وكنت امنح أعلى درجة لمن كان يحلم منهم حلماً أكثر غرابة .. وكانت ملامح الطلبة تتغير أمام انظاري بمرور الوقت وكنت أراهم في عمر أكبر من اعمارهم .. كان الفتيان يبدون اكثر سمرة واكثر طولاً ، أما الفتيات وإن كن صغيرات السن ، لكنني كنت أشعر بأن نهودهن تكبر بمرور الوقت .. حتى أنني في كثير من الأحيان كنت أمد يدي نحوهن .. وكان الطلبة الذكور يقلدونني فيما بعد .. وفي أحايين أخرى خاصة حين كنت أتكلم لهم عن التاريخ، كانوا يقعدون في أحضان بعضهم البعض .. ومنذ ذلك اليوم أصبحت هذه الظاهرة (عادة) لدى الطلاب ، حين كنت أتحدث لهم عن تلك الفترة حين قتل خالد بن الوليد .. مسيلمة .. ومن ثم وعند رواية أي حدث تاريخي ، كانوا يقومون بأفعال غريبة .. حتى ذلك اليوم الذي كنت قد رفعتُ عصا المدير .. وقلت لهم : كفى ، كفى … ألا تدركون بأنني في ورطة كبيرة .. إنكم لن ترأفوا بيّ .. لا تورطوني في مشكلة أكبر … أحبتي تصرفوا بأدب .. إنني لا زلت لم أنفذ وصية جدي بعدُ ..إني أمريء غير نافع .. وبشع .. وشرير .. إنني لا أنفع في أن اعلمكم شيئاً، لآنني في حد ذاتي لا أعرف شيئاً ، الكلمات التي أنطقها لكم .. ليست كلماتي .. إنها كلمات تلك العجوز الساحرة، ثقوا ، إنني لست واثقاً من تلك الدروس التي ألقيها عليكم .. يحتمل أن تكون كلمات المدير صحيحة .. وليس من الضروري أن يكون كذلك ؟! يحتمل أن تزوره ليلاً ساحرة ما وتنزع منامته بدورها،، لم أكن قد انهيت حديثي بعد حين دلف المدير إلى الفصل وهو يعرج .. ويقف خلفي .. أستطردت في حديثي قائلاً : لو لم تكن حبسةخان النقيب .. لمّا فتحت مدارس البنات ، ينبغي علينا جميعاً أن نعلق في بيوتنا صورة لحبسةخان النقيب . وينبغي علينا الإلمام بتاريخ حياتها ونطالع جميع كتاباتها،، . ربت المدير على ظهري وقال لي بوجه باسم : أحسنت أيها الأستاذ .. أنت نموذج للأخلاق الحميدة ومبعث فخر وإعتزاز لمدرستنا .. ولكن عساك ان تنفذ وصية جدك وترتدي نظارته .. فدون شك عندها كانت ستتغير شخصيتك .. أو كان من االمحتمل أن يحدث تغيير في منصبك ايضاً .. أيها الأستاذ، قرأت أمس في مجلة إنجليزية، موضوعاً عن متحف بريطاني … والخاص بنياشين واسلحة وخناجر وأمتعة جدك .. وواضح انه منح أغلبها لشجاعته .. يا له من رجل فحل !!،، .
وفجأة دخل الفصل ثلاثة رجال جلف وجه مهندمهم كلامه إلى المدير قائلاً : ألاّ يغادر أحد ، توجهوا حالاً نحو ساحة المدينة الرئيسية .. وبهذه المناسبة الهامة، سيضاف خمس درجات للطلاب فوق مجموع درجاتهم ،، . أستعد الطلاب جميعاً وقبيل أن يتركوا الفصل الدراسي .. أنزل الرجل المهندم الصورة المعلقة فوق السبورة وبكل ما أوتي من قوة ضربها ارضاً فتهشمت زجاجها أما الآخران فقاما بإخراج الصورة واضرما فيها النار بقداحة المدير ومن ثم ضحك الجميع للحظات !! وبعد ذلك اختلطنا في ساحة المدينة الرئيسية بزحام الناس المحتشدين ، ونتيجة للزحام والفوضى أصبحت في المقدمة كانت (تلار) أو الفتاة التي كنت أطلق عليها هذا الإسم .. عريفة حفل تلك المناسبة التاريخية الهامة .. كانت تقرأ الكلمات الحماسية بإستمرار وكانت الجموع الغفيرة تهم بالتصفيق بعد إنتهاء الكلمات، وحتى قبل أن تنهي كلامها .. ولم اكن ادري كيف .. ومن المحتمل أن يكون بسبب الاّ تتحطم نظارة جدي في جيبي أثناء ذلك الزحام .. ودون قصد مني قمت بإخراجها ومن ثم إرتدائها .
أمعنت النظر .. كان الجميع يحدقون في بحذر وإحترام كبيرين .. وكان هناك عدد من الحراس يحيطون بيّ وكأنهم من الحرس الخاص بيّ .. فقلتُ في نفسي : من الممكن إنهم يدركون قيمة وأهمية تلك النظارة لهذا يريدون القيام بحراستي … لئلا يدنو مني احد . أستملكتني سعادة غامرة بسبب السحر الذي احدثته النظارة على معظم الحضور .. إضافة إلى ذلك زال كل قلقي وترددي الباطني .. في ذلك اليوم التاريخي الهام، والذي لم اكن لأعرف ذكرى أي يوم وسنة، أو شخصية، أو حتى أية مناسبة .. ولكن الشيء الذي كان يهمني ، هو إنه وبعد فترة من المعاندة والصراع ومخالفة وصية جدي .. قد نفذت الآن وصيته بكل سهوله وأسلمتُ نفسي لتأثير خرافات نظارة جدي .
لم يمض طويل وقتٍ أقتربتْ الفتاة السمراء أو لنقول التي كنت أطلق عليها إسم (تلار) .. من المايكروفون لتقول على مهل : ,, يا جماهير مدينتا الشرفاء .. نسعد اليوم بالمدير الجديد لمدينتا .. الذي من الواضح بأنه شخصية شهيرة ومن عائلة شهيرة ايضاً .. إنني كقرينة تلك الشخصية الشهيرة أعلن بإعتزاز بأنه مستعد للذود عنكم ولا يتوانى عن عمل كل شيء يستطيع عمله في سبيل خدمتكم .. أيها الأعزاء .. كونوا مطمئنين بانه من الآن فصاعداً لن تجدوا أطفالكم عراة أو موائدكم فارغة .. إن الرجل العظيم الذي سيصبح حاكم مدينتا، هو اعظم بكثير من ان أستطيع التعريف به هنا .. والآن نطلب من سيادته أن يأتي إلى هنا ليقدم لكم كلمة .
أرتفعت اصوات التصفيق لدرجة، أوشكتْ أن تطرش أذني ، أو يغمى عليّ جراء ذلك .. فسح الحراس لي الطريق قائلين تفضل .. تفضل .. وقامت مجموعة ما يسمى بكبار الشخصيات وممثلي المجالس البلدية والأطباء والمحامين و ….. ألخ.. يقبلوني من كلا وجنتي وأخذوني دون إرادتي إلى المنصة وحين واجهت كل تلك الوجوه أمتلكني خوف وخجلت وبدأت بالتفكير ، يا ترى ما الذي حدث .. هل ياترى وقد تحققت كلام الساحرة، وهل يكون هذا هو السر المخبوء لسنين عديدة في نظارة جدي …
عدت إلى حلمي وتذكرت بدايته؛ نعم كان هكذا تماماً، كالوضع الذي أنا فيه الآن .. نعم إن تلك المرأة صادقة فهي زوجتي بموجب الحلم وأنا بدوري أحد ابطال هذه المدينة .. ودون وعي مني كنت اقوم بسرد الحلم للحضور وجموع الجماهير الغفيرة .. وفجأة تناهت إلى أسماعي أصوات الدفوف والتهاليل والذكر وبادرت أسأل : ماذا حدث ؟ .
أخبرتني زوجتي : كل هذا هو بسبب كونهم أطمأنوا بأنك شخص مؤمن ونوراني وكنت تملك من قبل قوة خارقة وتوقعت حدوث الأمور .
ماكنت أرغب في هذا الأمر ، ولكن لكي لا أحيد عن وصية جدي عدتُ إلى حلمي وألقيت عليهم الكلمة التي كنت قد رأيتها في بداية الحلم .. وقلت بصوت اجش : لا أريد أحداً أن يتفاداني ويتملكه الخوف مني .. فإنني ساصبح حاكم المدينة لمدة أربع وعشرين ساعة حسب ما جاء في وصية جدي .. يجب أن ينام الجميع خلال تلك الأربع والعشرين ساعة ويحلموا بمدينة بيضاء .. التي يجب ان يمنع درس التاريخ في مدارسها ويدرس بدله الجغرافيا . وبدون شك يجب أن يتم تنقيح الدروس الأخرى .. أرى من الأفضل تصغير الكتب الكبيرة الحجم وجعلها عدة صفحات .. لأن جميع صفحاتها زائدة وقراءتها دون فائدة تذكر .
حين استعدت وعي ، عرفت بانها ليست كلمة حلمي … بل كانت إنشاءً ، كنت قد كتبته للطلاب من قبل، لم اجد في ذلك حرجاً ودخلت إلى حلمي والقيت عليهم الكلمة بنصها : يجب أن يكون درس التاريخ الدرس الأساسي ويجعل حجم كتابه أربعة أضعاف ما هو عليه الآن ويهمل بقية الدروس !؟، لأننا لا نملك غير التاريخ ، كي نفتخر به . كما أطالب أن يجعل من تاريخ جدي ، فصلاً رئيسياً في درس التاريخ ، ويُجعل من ذلك الفصل مصدر الأسئلة الوحيد للطلاب عند حلول الإمتحانات .. إذن منذ اليوم سنعود إلى سراديب التاريخ المظلمة .. يجب ان نرتدي ثيابهم ونتاول طعاماً كأطعمتهم .. يجب ان نقيم تماثيل لجدي وزوجاته الثمانية عشر في هذا الميدان .
سحرتني اصوات التصفيق وكنت اسمع الهتافات السحرية وهي تتعالى .. وبعد إرتداء النظارة ، كنت أرى الناس أقزاماً .. وكانت الوجوه تتراءى لي وهي مشوهة !!؟
شرعت مجموعة من الفوضويين إنتهاك قدسية ذلك اليوم الهام . لهذا وجدتهم وقد احدثوا بعض القلاقل والفوضى .. فهرع حراسي الشخصيين ليلقوا القبض عليهم .. ولم أكن أدري كيف حصل ذلك وإن قلت من خلال المايكروفون : من الوضح انكم جميعاً تعرفون هؤلاء الفوضويين .. إنهم أناس وقد خصصوا صحفهم وبياناتهم لنشر صورهم فقط ، يبدو أن كلامي أثار حفيظتهم حين اقترحت إقامة تماثيل لجدي وزوجاته الثمانية عشر ، لهذا يبدو إن هناك ليس من مفرّ ، ويجب الاّ نسمح لهم بإقامة تماثيل لهم ولزوجاتهم !؟ ولكن يمكن ان نمنحهم الحديقة العامة حفاظاً على الديمقراطية والحرية كي ينشروا فيها صورهم وصور عائلاتهم وعشائرهم ويجعلوا منها معرضاً خاصاً لهم . ومن الوضح فإنه بهذه الطريقة ستقل ظاهرة نشر الصور في صحفهم ومطبوعاتهم وتحل عقدتهم النفسية تلك .
وهكذا كنت أعرف بأن بداية حلمي قد أنتهت وأنا الآن في منتصفه .. لهذا وجدتني وقد بقيت حوالي أكثر من ساعة في الإنتظار، لأعرف كيف تتهشم نظارتي .
وكان الغريب في الأمر هو إن تلك الجموع الغفيرة أمضت تلك الساعة بصمت .. وعوضاً عن ذلك وكأنهم جالسون في مأتم ، وقد نكسوا رؤوسهم . وبعد إنتهاء الساعة رأيت العجوز الساحرة وقد تعرَت في وسط الجموع المحتشدة وهي تمد بأصابعها الأربع إلى ما بين فخذيها ومن ثم بدأت بالعياط والصراخ . لم أفهم تماماً ماذا كانت تخبرهم وعمّا كانت تتحدث حولها .. ولكن كنت أعرف بأنها كانت تلفت إليها إنتباه الجميع رويداً رويداً وبقيت انا وزوجتي وحيدين ، ودون ادنى سبب أحسست بالخجل وأستولى علي نوع من القلق الغريب واخذت جميع اعضاء جسدي يتصبب عرقاً .. فلم اسعف .. حيث هوت النظارة أرضاً وتهشمت !!
وفجأة توجهت الجموع المحتشدة نحوي وسقطت تحت اقدامهم . فأنهالوا علي ضرباً باقدامهم، حتى أغمي علي، وحين فتحت عيني رأيت العجوز الساحرة الماكرة فوق رأسي .. فقالت بصوت مبحوح : إنك سببتَ العار لجدك فما دمتَ باقياً على قيد الحياة فإنه لن يهدأ في لحده .. يجب أن تموت . فأخرجت شفرة من محفظتها ، وبعد ان نزعت عني بنطالي .. قامت تقهقه قهقهة غريبة وتمد يدها اليمنى إلى عورتي وأما يسراها فقد بدأت تقرب الشفرة .
وقبل ان يغمى عليّ . أو نقل قبل أن أموت، ألصقت النظارة المهشمة بصدري بقوة .. وكانت عينا جدي يومئان إليّ من خلال عدستيها والغضب يتقاطر منهما لدرجة كنت أعرف إنه لو كان على قيد الحياة ويتناهى إلى مسمعه حكايتي هذه .. فكان سيبصق في وجهي قائلاً : لقد قدمت لك هذه النظارة كي تتلو الكتاب المقدس وتطلع على فصل من فصول تاريخنا .