یوسف عزالدین: التجربة الصوفیة او مجازات التصوف في احدی نصوص آسیة السخیري.
محاولة لقراءة النص الشعري ” ومضات” للکاتبة آسیة السخیري
( انا من اهوی ومن اهوی انا
نحن روحان حللنا بدنا
فاذا ابصرتني ابصرته
واذا ابصرته ابصرتنا
فاین ذاتک عني حیث کنت اری
فقد تبین ذاتي حیث لا این). –( اسطورة الحلاج- سامي خرطبیل- دار بن خلدون- بیروت).
من البدیهي ان المتصوف لا یتعامل مع الحقیقة او الحق، کما یتعامل اي مؤمن عادي و بسیط مع خالقه، بل یتعامل معه بوصفه عاشقا له، کما ان مفهوم العشق هو من المفاهیم المحوریة في الخطابات الظاهریة و الباطنیة للصوفیة و المتصوف لیس الا عاشق فعلي و جدي للحق و الحقیقة، وبهذا یکون التجربة الصوفیة محاولة افناء الالهي في الاشیاء و الکائنات بتحویل المتعالي و الغیبي في عملیة ولوج مستمرة لغور الاعماق و الخبایا و المجهول لمعرفة الشيء الذي لایوجد في ذاته، بل یوجد بغیره و لغیره!؟ وهناک من لا ینظر الی التصوف من منظور لاهوتي روحاني، بل ینظر الیه کأداة للتحرر من السلطات الشرعیة و الفقهیة، بمعنی ان المتصوف یتحرر من نماذج مفروضة علیه سابقا، لکي یبتدع سلطته الذاتیة المعرفیة متجاوزا الشعائر و المسالک، وهذا لایکون الا بإبداع الذات من جدید، اي نستطیع قراءة ما یحصل للمتصوف المجازف من خلال وجهة نظر انطولوجیة. عندما قراءت الـ”ومضات” للکاتبة”آسیة السخیري” و خصوصا بعد الترکیز علی بعض مقاطعها، توغلت في غابة احلامها و تشعبات مملکتها الفکریة المجدولة بالضوء دائما، و اضعت نفسي في ثنایا رؤیته للاشیاء و افکارها الهیتروتوبیة بین حقیقة المرآة و لا حقیقة المکان، تذکرت قولا ” لملا صدر الشیرازي” یقول:
( البسیط هو اصل الکل).
لکي تکون متصوفا یجب ان تکون بسیطا في کل شيء، فألتصوف یتعارض مع الترکیب و الغلو و الإفراط، لهذا نری ان المتصوف ینسحب اذا جزم الامر الانسحاب، بدون ضجة و ضوضاء، ویتقدم اذا کان الموقف یتطلب ذلک بدون تردد او خوف.
ما ادهشني في النص الشعري “ومضات” لـ”آسیة السخیري”، هي اتخاذها التجارب الصوفیة و خاصة ما یجري في ثنایا مجازات التصوف و نصوصهم، منطلقا لخلق نص شعري جدید و رائع، یتم في ثنایاها طرح مواضیع دقیقة و معقدة، بشکل بسیط دون تکلف او تصنع، وکما هو معروف فالبساطة مرادف للزهد، او هي جوهرها الفعلي کبعد انطولوجي للوصول الی الخبایا و المجهول، ومن الجدیر بالذکر ان اشیر هنا، ان ممارسة”آسیة السخیري” لذاتها و علاقاتها بوجودها، وخلقها لعالمها الخاص و صنعها لأشیائها في النص الشعري “ومضات”، علاقة بسیطة کبساطة الصوفیین و الزاهدیین و العارفین حینما ینطلقون، وعمیقة عمق تجاربهم عندما یسکتون و یحجبون الأشیاء…
تقول “آسیة السخیري” في الـ”ومضات”:
أغان
في أوج صمتك،
تتعالى الأسرار العتيقة
أعطر الأغاني تتفتح بين بتلات زهرة منسية
تبرعم
في الركن القصي من صحراء روحي،
أجلو غبار العتمة
ها أنت تتبرعم زهرة صبار
غياب
على عجلة من أمري
أرهق تفاصيلي دائما بالغياب
كي تعيدني إلى رحمها اللحظة الظلماء
سقوط
كل شيء يعيق انصهاري فيك
الشاهدة التي شيدتها لك ذات سقوط
تنحت للأغنية شتاءاتها اللانهائية
إغفاءة
هناك حيث انهيار النجمة
يغفو حلمك…
الحب المقدس يغتسل بأول شعاع لفجر موؤود
عناق
يحدث أحيانا
أن نعانق البروق
كي….. نتبلل برمادنا
حلول
تهل من أقاصي النسيان على جناح الظلام
الديمة تحمل رائحتك الشهية
وبراقك يسابق الريح
رؤيا
أغلق عيني
أجول في رحاب ظلماتي الشاسعة
في ركن قصي لا تلمسه يداي، أرى الله
بياض
هذا الموت الذي يطوقني
رائحته مقيتة
بيد أنني بيدي هاتين أنسج خيوط بياضه المحتضن لتحللي الفاجر
اشتهاء
أشتهي أن أراك تعدو بساقي في الريح
أنظر إلى نصفك الميت
ترى، منذ متى عهدتني كسيحة؟
براءة
لماذا يزعجكم غنائي
أنا لم أذبح صبيا ولم أغتل زيتونة تسبح لكل الجهات
أنا فقط أحب الله
اذا قراءنا مقاطع القصیدة المشار الیها، بإمعان و دقة، قراءة حیة و جادة، نری في ظاهرها و باطنها، في خبایاها و خفایاها اکثر من اشارة و سیمبول الی انطلاق النص من تجربة صوفیة غنیة و مشحونة بمشاحنات و صراعات داخلیة، التي تجعل من النص ساحة للحرکة و الجدل، مع معرفتنا بأن النص لیس وحدة مطلقة الوجود، لربما انه کذلک من خلال اجزائه، مع ان کل مقطع شعري لـ”ومضات” له قیمته التأویلیة لذاتها و بذاتها، کما یقال و یشیر الیه من منطلق تقلیدي: فالشاعر هو من یشعر بما لا یشعر به سواه من الناس و الشعراء، ولکن هاهنا نجد المفارقة، فالشاعر عندما یرید الافصاح عن الحال لایشبه حال، یجد نفسه امام مفردات عتیقة و تراکیب مألوفة، من هنا تلجأ الشاعر الی استعارات و الدلالات…
ولکن مانراه في اشعار التصوف و النص الشعري “ومضات” تختلف عن تلک الوصفة اعلاه، لیس هناک محاولة للتعویض عن القصور الانطولوجي للکلمات و التراکیب للتحرر من قیود الأسماء و المقولات، وذلک بأتخاذه الرؤیة التصوفیة من التجارب الصوفیة و مجازات التصوف في النصوص و التقرب الی البسیط و البساطة في التعبیر کما هو معروف في الصوفیة…مع فحوی و محتوی ثمین نابعا من التجربة الصوفیة ذاتها کابعاد و عمق دلالي و معرفي في عملیة فکریة قلقة و مستمرة.
تقول”آسیة السخیري” في الـ”ومضات”:
بياض
هذا الموت الذي يطوقني
رائحته مقيتة
بيد أنني بيدي هاتين أنسج خيوط بياضه المحتضن لتحللي الفاجر
……
ففي هذه المقطع من القصیدة نحس بغرابة ترتیب العلاقة بین الموت و الذات، ممتزجا ببعض العبث، مخالفا لما یراه مثلا فیلسوفا کـ” ابیقور” من حیث نطرته الماتریالیة للأشیاء:
“حینما اکون موجودا لا توجد الموت، وحینما توجد الموت لا اکون موجودا”.
وتقول في مقطع آخر:
رؤيا
أغلق عيني
أجول في رحاب ظلماتي الشاسعة
في ركن قصي لا تلمسه يداي، أرى الله
…….
نری في هذا المقطع تجسیدا کاملا للرؤیة التصوفیة من حیث اتخاذ محاولة رؤیة الخالق منطلقا للإجتهاد عبر طریق الزهد و التقوی و العبادة و البحث، ولکن یبقی “رؤیة الخالق” عند اکثر المتصوفین و غیرهم الإشکالیة الکبیرة و ایضا منطلقا لخلافاتهم.
و”الحلاج” من الذین آمنوا باستطاعة رؤیة الخالق في الدنیا، اذ یقول في کتابه “الطواسین”:
( من قال:” عرفته بفقدي، فالمفقود کیف یعرف الموجود”.
ومن قال:” عرفته بوجودي فقدیمان لایکونان”.
ومن قال:”عرفته حین جهلته. والجهل حجاب، والمعرفة وراء الحجاب لا حقیقة لها”.
ومن قال:” عرفته بالاسم فالاسم لایفارق المسمی لانه لیس بمخلوق”.
ومن قال:” عرفته به فقد اشار الی معروفین”.
ومن قال:” عرفته بصنعه، فقد اکتفی بالصنع دون الصانع”.
ومن قال:” عرفته بالعجز عن معرفته، فالعاجز منقطع، والمنقطع کیف یدرک المعروف”.
ومن قال:” کما عرفني عرفته، فقد اشار الی العلم فرجع الی المعلوم، والمعلوم یفارق الذات ومن فارق الذات کیف یدرک الذات”.
ومن قال:”عرفته کما وصف نفسه، فقد قنع بالخبر دون الأثر”
ومن قال:” عرفته علی حدین، فالمعروف شيء واحد لایتمیز و لایتبعض”.
ومن قال:” المعروف عرف نفسه، فقد اقر بأن العارف في البین، متکلف به لان المعروف لم یزل کان عارف بنفسه”.
ومن قال:” عرفته بالحقیقة فقد جعل وجوده اعظم من وجود المعروف، لان من عرف شیئا علی الحقیقة…الخ. واخیرا یشیر “الحلاج” الی استطاعة “رؤیة الخالق” کما یقول: ” العارف من رأی، والمعرفة بمن تبقی، فالمعرفة ثابتة من جهة النص، وفیها شيء مخصوص مثل دائرة العین المشقوق-الطواسین-“.
ویقول في مکان آخر في کتابه:
“فالعارف من رأی والمعرفة بمن تبقی، العارف من عرفانه لانه عرفانه، وعرفانه هو والمعرفة ذلک، والمعروف وراء ذلک…”.
حول ذلک یشیر “سامي خرطبیل” في”اسطورة الحلاج”:
( وهذا هو طریق الحلاج لمعرفة الله، او البرهنة علی وجوده، الا ان رؤیة الله بالابصار قضیة شائکة في الاسلام. ففي القرآن آیات صریحة علی انتفاء رؤیة الله، منها “لاتدرکه الابصار، وهو یدرک الابصار”، وهناک اجماع علی ان الرؤیة ممتنعة في هذه الدنیا، وفي حدیث عن مسلم” وعلموا ان احدا منکم لن یری ربه حتی یموت”، وعلی هذا یفسرون الحدیث” رأی محمد ربه مرتین”-مسلم- علی انها رؤیا ولیست رؤیة، والرؤیا جائزة و مقبولة.
اما المتصوفة فقد ساروا بطریق آخر، وقد مرت معنا کلمات ابي یزید البسطامي حول ذلک، الا ان مؤرخي الصوفیة ینکرون الرؤیة…اما الرؤیة في الآخرة فمصدق علیها، وهناک آیة توضح ان الصالحین سیرون الله یوم القیامة و فیها”وجوه یومئذ ناظرة الی ربها ناظرة” وعلماء المسلمین یفسرون الآیة تفسیرا واضحا و هو رؤیة الله بالابصار، ولایشذ الا المعتزلة، فهم ینکرون هذه الرؤیة ویرون انها رؤیة مجازیة لا حقیقیة”.
مع ما اشرنا الیه سابقا حول ما یحمله المقطع الشعري”رؤیا” من معنی او معاني:
رؤيا
أغلق عيني
أجول في رحاب ظلماتي الشاسعة
في ركن قصي لا تلمسه يداي، أرى الله
…
ولکن رب قائل یقول، لیس ماجاء في النص “رؤیا” الا رؤیا لا اکثر و لا اقل، وبهذا لا نستطیع قراءته الا قراءة من جانب واحد؟!.
هذا صحیح اذا قرءناها قراءة میتة ولکن اذا قرءناها قراءة حیة، یجب ان نعرف ان محرک القراءة الحیة لیس الا الکشف و البحث، ولهذا لا تتوقف عند المقول و المعلوم و المصرح به، بل تهتم بالکشف عن المسکوت و المجهول من الخبایا و یبقی خارج النص و خلف السطور، ولایهم في القراءة الحیة ما اراد الکاتب ایصاله للقاريء، المهم ما یاخذه القاريء من النص، في اثناء عملیة القراءة المنتجة، حیث تنطوي علی کشف و تعریة من اجل قراءة انطولوجیة لإستکشاف المحجوب.
*يوسف عزالدين رؤوف: كاتب و روائي كردي
المصدر: “ومضات” آسیة السخیري- 21-مارس-2009- موقع دروب المغربية-
http://www.pertwk.com/ktebxane/taxonomy/term/39
Yusif Ezzadin Rauf / Novelist and writer
He is from Sulaimani city, he had been publishing articles and texts since 1991 and his published books are:
1- Another side of unwritten events, novel, Shvan publishing, Sulaimani 2006.
2- Only a cold day, novel, Mukryan publishing, Hawler 2008.
3- A bed in blood, multi-stories, Aras publishing, Hawler 2008.
4- Salman Farsi’s events, novel, Qalam club, Sulaimani 2009.
5- Illusion of conditional memories, novel, Sulaimani 2009.
6- Illusion and identity, interviews and articles, Sulaimani 2012.
7- Finality, escape, multi-stories, Hilal publishing, Morocco 2015