يوسف عزالدين رؤوف: انا و الزعيم.
هذه الحکایة حکایة بسیطة و اعتیادیة، یعرفها جمیع الذین عاشوا في المعمورة التي عاش فیها الزعیم. کان الزعیم شخصا عادیا، لحین أن قتلت تصادفا و بشکل اعتباطي و دون قصد، شخصا لم أعرفه قط!؟.. ومنذ ذلك الیوم و لسبب أو أسباب أجهلها، ذاع صیت الزعیم و اشتهر کشخص مهم.. وسمي منذ ذلک الوقت بالزعیم. لا أدري لماذا لم أقل في حینه،أو حتی بعد ذلک للجمع المعجب بالزعیم :
( أنا القاتل؛ أنا الذي قتلت ذلک الشخص المجهول. لهذا إن کان هناک من یستحق أن يکون زعیما، فلن يكون غيري.) وعجبي؛ فعلت عکس ذلک و تحولت طواعیة إلى عبد مطیع للزعیم و قمت بدور کبیر في استقطاب حب الجماهیر. ونسیت أن أقول ومنذ بدایة سردي، أنا و الزعیم کنا متشابهین شکلا و صوتا و ….، لدرجة أني کنت أحضر بدلا منه جمیع المناسبات، دون أن یحس احد بأني لست هو؟!.. وکنت أتلو في جمیع المناسبات المتشابهة، ما أحبِّره شخصیا من خطابات. منذ البدایة، بدأ جمیع قاطني المعمورة یلجؤون إلی الزعیم في جمیع المنازعات و القضایا و المشاکل المتشابکة و المعقدة، وکان الزعیم مع عدم معرفته القانونیة بماهیة المواضیع التي تطرح علیه، ولکن بالحدس أو الغریزة، وبعد اللعب بشواربه الطوال لمدة طویلة، کان یحل المسألة، أو بعضا منها، دون أن یقول شیئا، غیر: ( لیست هناک مشکلة… أنا لا أری أي مشکلة، إن حلها لبسیط؟!.) مع مرور الأیام، تحول الزعیم إلی بطل أسطوري، له سحر و جاذبیة غریبة، وخاصة علی الذین کانوا یجالسونه وإن لمدة قصيرة؛ یتغیر حالهم و یتحولون إلی أشخاص غریبي الأطوار، وخاصة عندما کانوا یجهشون بالبکاء، للتعبیر عن فرحهم أو ولائهم للزعیم. إن اشتراك الزعیم في الحروب لم تکن إلا من خلال تخطیطه لمعارک قدیمة من حيث نوعها وشکلها… وکان تخطیطه لذلک النوع من المعارک لسبب بسیط جدا، وهو أنه لم يکن یطیق شم رائحة البارود والدینامیت و الأنواع الأخری من المواد المستعملة في ذخائر الأسلحة و المتفجرات… لهذا تشبث بکل ما هو قدیم، مما استخدم سلفا في المعارک.. هذا ومع العلم أن الزعیم کان ينظر إلی جمیع معارکه کلعبة متشابهة فيما بینها في كل النواحي، ومختلفة من ناحیة واحدة و هي تسلسلها العددي، وکان ترقیم الزعیم لحروبه، غریبا و اعتباطیا و لا ينتمي إلی التسلسل العددي للأرقام بشيء. ولحسن الحظ أن الأعداء، قد استحسنوا و منذ البدایة لعبة الزعیم في الحرب حسب نمطه التقلیدي القدیم… لهذا، دون أی استفسارات أو أسئلة، استعملوا نفس طرقه مع استعمالهم لما یشبه أسلحته وأدواته الحربیة. أحب الأطراف المتحاربة مع الزعیم؛ إطالة المعارک أیاما و لیالي، في خضم اصطدام الرماح والسیوف… وقعقعة السهام و الطبول و صیحات المحاربين الهستیریة ودويِّ آلاف الحناجر من طرفنا بتمجید الزعیم، في حین کان المئات من الشباب، من ذوي العضلات المفتولة في خضم الـمعرکة، یطلقون صرخات حماسیة و أحیانا و خاصة عندما یصرعون في أرض المعرکة و تسیل دماؤهم الزکیة، ینطقون بکلمات مبهمة، لا معنی لها علی الإطلاق؟!. وحسب الطریقة القدیمة في خوض المعارک، في البدء کان يتقدم أحد المحاربین الأبطال المنتسبين إلی معسکرنا، ویصیح بأعلی صوته: ( هل من مبارز؟!)..هکذا کانت تبدأ معارکنا… مع أننا خضنا معارک کثیرة، في مناطق مختلفة جیولوجیا و جغرافیا، ولکن الزعیم، ربما لسبب ما، کان یحب المعارک التي تقع في عمق الصحراء، مع علمه بصعوبة معارک الصحراء و خاصة عند مطاردتنا للأعداء و ولوجنا إلی العمق.. لم أنس و لن انسی أبدا تلك الأیام الذي تهنا فیها، ولحین اهتدائنا إلى طریق الخلاص، أن أکثر أحصنتنا مات عطشا و جوعا. إن تقاربي و انسجامي مع الزعیم وصل إلی درجة علمي بکل خبایا و خفایا عالمه الجنسي؛ أي عدم مقدرته علی الجماع و خاصة عندما أجبره منصبه علی تقبل الکثیر من الجواري و تزوجه لمرات عديدة؛ كن مختلفات لونا و شکلا و طولا… حسب التقلید المتبع من قبل الزعماء لإثبات فحولتهم وإمکاناتهم الجنسیة الخارقة و شبه الأسطوریة خلال عملية ممارساتهم الغريبة للجنس مع الکثیرات وباستمرار، دون کلل أو تعب!؟. کان اتفاقي مع الزعیم، أو اتفاقه معي، أن أخبئ نفسي داخل غرفة نومه ، في تلک الحالات، التي یجب علی الزعیم أن یباشر خلالها مضاجعةَ إحداهن و خاصة عند الزواج و في لیلة الدخلة، وعند انتظار الجماهیر خلف أسوار القصر الحصین للزعیم، کي یسمعوا زغارید الخادمات، حین یرون المندیل الأبيض المغطی بالدم، دلیل عذریة إحدی زوجات زعیمهم الجدیدة و فحولته. ولکن في الحقیقة و الواقع أنا الذي کنت أقوم بدور العریس و أضاجعهن بدلا من الزعیم… دائما وحسب أوامر الزعیم تكون الغرف حينها شبه مظلمة… وبهذا لم تکن عملیة تبدیل بعضنا بالبعض مع الزعیم، أمرا عصیا أمام أنظار إحدی الفتیات بائسات الحظ، المنتخبات؛ أن تکون احدی زوجاته. وعندما کنت أقوم بمضاجعة إحدی عروساته، أو حتی جواریه.. کنت أحس بحزنها الدفین وبکائها المکتوم و نظراتها المشحونة باحتقار مشوه!؟. الشيء الوحید الذي لم أکن أعرفه، حتی ذلک الوقت حول الزعیم، هو سر أو أسرار غرفته الشخصیة، المجاورة لغرفة نومه المغلقة بشکل جید.. ولم یکن یلجأ إلیها إلا في تلک الأوقات، التي یکون متأکدا فیها من نومي أو وجودي خارج القصر أو انشغالي بأمور تبعدني کل البعد عن أیة محاولة لولوج غرفته. مضت الأیام، وأنا المحارب و المشارک في معارک الزعيم المتتالیة، أخوض بلا هوادة وتوقف المعرکة تلو ألأخری..إلى أن قابلت في إحدی الجولات، محاربا خشنا عنیدا، قویا کالثور.. أنا الذي حتی تلک الساعة، لم يتمكن أحد من إسقاطي… استطاع هو أن یطرحني أرضا… انتظرت أن یقتلني ولکنه قال مازحا: (بدل أن أقتلک، سأقطع أصابع یدک الیمنی…). مع توسلاتي الکثیرة… لم یقتلني؟!؟. بعد ذلک الحادث المؤلم، بقیت أیاما طوالا، بین الوعي و اللاوعي طریح الفراش في غرفة نوم الزعیم.. وبهذا بعدت كثیرا عن کل الأشیاء الذي کانت من المحتمل أن تحصل في الخارج… وفي إحدی أللیالي، عندما قمت من النوم مفزوعا، بعد رؤیتي لأحد کوابیسي المتکررة في تلک الفترة، سمعت.صوت خطی أقدام الزعیم… فتحت باب الغرفة ورأیته یدخل إلی غرفته الخاصة… دخلت وراءه. رأیت في القسم الأمامي من الغرفة، صورا معلقة لمعارک قد خضناها، مع صور للقطات خاصة وغریبة، مثلا لي و للزعیم في أوقات نبکي فیها أو نضحک أو نغني، أو نلعب کالأطفال وما شابه ذلک أو اختلف عنه من أمور غریبة و عجیبة؟!.
بین الصور ألمعلقة، استوقفني صورة قدیمة، ربما لم یمض زمن طویل علی تعلیقها… عندما اقتربت منها کثیرا و أمعنت النظر، أستنتجت إن المصور کان ذکیا، في التقاط لحظة تراجیدیة، لبطل محارب لنا، کاد یقطع خمس أصابع من یده الیمنی، بسیف تلمع في ید حامله. القسم الوسطي من الغرفة، کانت، ملیئا بأدوات حربية قدیمة التي كان يستعملها وخاصة السیوف والرماح، کانا نصالها لا تزال ملطخة بدماء ذکية، وکأنها استعملت قبل ساعات في قتل أشخاص شاء لهم القدر أن یقتلوا؟!. أما في القسم الأخیر من الغرفة، فقد كان هناك صور معلقة لجمیع الفتیات اللاتي تزوجهن الزعیم؛ رأیت فیه أیضا، مرآة معلقة مقابل الباب الرئیسي للغرفة، عندما وقفت أمامها، بدل أن أری نفسي کما کنت أنتظر، رأیت الزعیم، مصفرا، قصیرا، کئیبا، ذا لحیة بیضاء طویلة، ولکن کصورة مشوهة في ماء عکر…بصعوبة وجهد کبیرين تعرف عليَّ… کنت متأکدا من أنه كان یبکي، قلت له: ( لماذا…؟!.) نظر إليَّ نظرة غمرها الحزن و القهر، نظرة لم أر فیها الهیبة السابقة للزعیم… وقال:
– منذ زمن طویل، الجأ إلى هذا الغرفة للبکاء…
– وما هذا القطع من العظام؟!. بعد النظر إلى قطع العظام الموجودة في یده الیسری، قال: – هذه قطع عظام أصابعک المقطوعة!
– ولکن ليس لديها أي قیمة، المهم هو سلامتکم…
– ولکن؟!
– المهم انک بقیت و ستبقی زعیما في هذا القصر..).
ضحک و قال: -أیها المحارب البطل، إننا نقطن في قصر مهجور، علی ضفاف صحراء قاحلة.
– ولکن..
– الذي کنا نراه معا، کان حلما، أو لنقل کان لعبة بدأناها منذ الطفولة…إذ أنني کنت اتقمص دور الزعیم و أنت دور المحارب البطل…
– لا أفهم وماذا عن أصابعي المقطوعة؟!
– عندما کنا صغارا، وبالتحدید في هذا القصر أصبت بمرض خطیر، أدی إلی سقوط أصابعک…
– لا أصدق… إذن لماذا نحن باقین في داخل هذا القصر؟!
– عندما کنا أطفالا، خاف “والي” معمورتنا، من لعبنا أو لنقل معارکنا الخیالیة، وخاف أيضا من سردنا لحکایات، معارک قد نقوم بها في المستقبل، مما قد یؤدي إلی قلب نظام معمورتنا و توهم في کوننا، نشكل خطرا علیه حینما نکبر… لهذا أرسلنا إلی هذا القصر، بالرغم من توسلات الصالحین والصالحات من أهالي معمورتنا، ولم ننج من الموت إلا بواسطة مساعداتهم الدائمة، بما أمکننا من البقاء أحیاء؟!
عندما غاب الزعیم أمام نظري، لم أر في المرآة إلا نفسي… خرجت من الغرفة و مشیت لفترة في أنحاء القصر الفارغ ومن ثم توقفت في مکان؛ أستطیع النظر منه إلی أبعد نقطة من صحراء لانهایة لها… بدأت أری جمیع الحروب و خاصة الحروب الذي خضناها في عمق الصحراء، کما لو کان واقعا أمامي… رأیت القتلی..سمعت صوت أنین الجرحی و عویل من فقدوا أعزتهم..سمعت صوت الأحصنة الهائجة و الکثیر من….؟!
ولکن وسط جمیع الأشیاء الصاخبة، رأیت أیضا؛ فراغا لانهائیا مفزعا، یمتص نظراتي الشاردة، بعنفوان و قوة جنونیة.. وأخیرا في أبعد نقطة من مجال النظر، رأیت سحبا من الرمال، تسقط کالمطر، ومن ثم تبتلعها عاصفة، قویة و کافیة لتحویل ذاکرتي المتبقیة، إلی نقاط کثیرة من رمال سابحة و عالقة للأبد، ربما في أماکن عدیدة، لنسیج من کون لانهائي من خیال.